قراءة في كتاب "النواميس" (الجزء الثاني )
مريم زكرياء
المستوى الثالث: مناقشة المحاورة في ضوء محاورات أفلاطون (محاورة الجمهورية، محاورة بوليتيكوس" السياسي"، أو "رجل الدولة"):
فإذا كان أفلاطون قد قدم في كتابه "الجمهورية" صورة مثالية أشبه ما نقول طوباوية لنموذج مثالي متعالي عن الواقع ؛ فإنه هنا يفترض خيرية الإنسان في مقابل شره الذي لا يقوم إلا بواسطة نهج القوانين الصالحة ؛ كأن أفلاطون قام بانتقالية من عالم المثل إلى عالم الواقع باعتباره عالم غير كامل ، ويسود فيه نوع من القصور، مما يجعل بالضرورة فرض تشريعات وقوانين للدولة.
فإذا ما أردنا أن نكتشف صورة أفلاطون المثالية علينا أن نعود إذن إلى كتاب الجمهورية؛ حيث ينظر أفلاطون إلى الأهمية التي يكتسيها الحاكم الفيلسوف على حساب القانون؛ وهذا يعكس تماما ما أكد عليه في محاورة "القوانين" ؛ إذ حاول أن يعيد الاعتبار للقانون بدل الحاكم الفيلسوف يظهر لنا من خلال هذا أن أفلاطون كان يحاول أن يؤسس لنظرية جديدة في الحكم السياسي ، أو كما تمت الإشارة إلى ذلك بالعلوم السياسية.
من الواضح أيضا أن أفلاطون في كتاب الجمهورية ؛ قد أولى قيمة وأهمية بالغة لفكرة العدالة التي تقوم على أساس تحقيق الانسجام بين قوى النفس والطبقات الاجتماعية التي حددها أفلاطون في ثلاثة:( طبقة الجنود، الصناع والتجار والحرفيين ، طبقة الحكام) ؛ يبدو أن أفلاطون كان يهدف إلى تحقيق التراتبية الاجتماعية وخلق توازن اجتماعي ؛ بحيث يرى أن الطبيعة الإنسانية فطرية وجاهلة بماهية الخير والشر ، وهي أنانية تسعى إلى تحقيق الذات على حساب الآخرين، خاصة عند اختلال نظامها الإرادي ؛ و في نفس الوقت لا يمكن الركون إليها للحفاظ على أمن واستقرار المجتمع ومن تم فرض نظام اجتماعي ؛ وذلك من أجل السيطرة على أفعال الإنسان والسعي نحو تحقيق الأمن والاستقرار داخل المدينة.
لعل هذه الفكرة تم الإشارة إليها سابقا في محاورة القوانين ، حيث يقر أفلاطون بأهمية وجود نظام اجتماعي و كذا ضرورة السيطرة على الأهواء والملذات من خلال القوة العاقلة.
إننا نجد أفلاطون يؤكد في كتاب "القوانين" الأهمية التي حظي بها القانون في الحفاظ على نظام الدولة وفي تقرير العقوبات والفصل في بعض الجرائم ، وهذا يعكس تماما عما ذهب إليه في كتاب "الجمهورية" ؛ حيث أكد على أهمية الحاكم الفيلسوف والذي يتميز بالفضيلة والعدالة ، بمعنى غياب القانون واعتبر على أن الحاكم يجب أن يحكم بالعدالة شريطة أن يكون عالما بالسياسة ، إذ أن غياب الحاكم العادل سيؤدي إلى غياب القانون ؛ أي بدل الحاكم الذي سيتحول إلى طاغية ، هذا على ضوء محاورة السياسي ؛ ونجد أفلاطون بذلك يشدد في الكتاب الثاني من محاورة الجمهورية بالحديث عن مميزات والصفات التي تميز الحاكم الفيلسوف ومنها رجاحة الحكم والأخلاق والتحلي بالتربية والتعليم ؛ ومن تم ليست هناك أية ضرورة لسن قوانين تقيد تصرفات هذا الحاكم وتحدد النهج الذي يجب أن يسير عليه ؛ وهذا التصور يكاد يختلف عما ذهب إليه في محاورة القوانين خصوصا في الكتاب الثاني على وجه التحديد.
وما يلفت نظرنا هنا هو أن أفلاطون قد أولى أهمية وقيمة للفضائل وهذا ما استعرضناه في قراءتنا السابقة لكتاب "القوانين" ؛ ونجده يؤكد نفس المسألة في محاورة "الجمهورية " ؛ إذ يعرض أفلاطون في الكتاب الرابع من هذه المحاورة أنواع الفضائل وهي الحكمة والشجاعة والعفة التي ترتبط بالنفس، وحيث أن الفضيلة تتساوى فيها الملذات والآلام ، إذ التخلص منها سيكون هو السبيل إلى السعادة ؛ بلا شك فإن هذه الفكرة هي نفسها التي يذهب إليها أفلاطون في محاورة القوانين بحيث يؤكد على أهمية اتصاف الحاكم والمشرع بالحكمة والشجاعة التي تكسبه الاعتدال ؛ لكي يكون صائبا في حكمه وتشريعه للقوانين.
لاشك أن هدف أفلاطون في محاورة الجمهورية كان يتجسد في رسم صورة مثالية للمدينة الفاضلة ؛ وهذا لا يستقيم بطبيعة الحال إلا من خلال النظر في تلة من المواضيع التي كانت تشكل محور النسق الأفلاطوني ؛ ومنها موضوع المرأة بحيث ظل "أفلاطون" على نفس الفكرة في كتاب القوانين وهي إعطاء للمرأة قيمة داخل المجتمع ؛ لاسيما هذه الفكرة هي التي خالفه فيها أرسطو لينشأ بينهما الخلاف تحت مبدأ الاختلاف ؛ إذ نجد أفلاطون يطرح مسألة المساواة ما بين الجنسين أي بين الرجل و المرأة ، من خلال كونه يرصد طبائع المرأة ودورها في المجتمع وجعل لها مكانة أساسية من خلال كونها نصف المجتمع ؛ وهنا دعا إلى إلغاء الملكية الخاصة التي ربما هي سبب الشقاق والتنافر.
إن المتأمل والقارئ لأفكار أفلاطون إذا نظر إلى متنه في الجمهورية سيجده لا يمت إلى الواقع بصلة ؛ نظرا لكونه بعيدا كل البعد عن الواقع ؛ لكن عندما نفتح كتاب القوانين تظهر لنا عكس هذه الفكرة تماما ؛ إننا نكتشف أفلاطون جديد الفيلسوف والناظر إلى الواقع في شموليته وكليته ؛ ولعل هذه الفكرة تظهر لنا من خلال نظرته إلى فكرة الخمر ؛ فإذا كان أفلاطون قد وضع صورة خيالية في محاورة الجمهورية ، فإننا نجده في القوانين ينظر عكس هذا وذلك من خلال تحريمه لفكرة الخمر وأنه يذهب العقول ويمنع الحكام من استقامة حكمهم.
و المسألة الأخيرة التي يجب أن ننبه إليها قبل الشروع في تبيان النظرة الجديدة التي تبناها أفلاطون في محاورة بوليتيكوس ؛ لا بد من الإشارة إلى فكرة أساسية أن أفلاطون قد تبنى كذلك نظرة إقصائية للشعر وقام بطرد الشعراء من مدينته الفاضلة لأنهم يفسدون أخلاق الشباب؛ وهذا الرفض للفن له بواعثه وأسبابه ومنها أن الشعر يؤثر على الطبيعة الإنسانية ؛ لكن نجد أفلاطون يتحفظ من هذه الفكرة تماما في محاورة القوانين ، إذ يعطي قيمة للشعر و للفن كجزء من التعليم الذي ينمي الروح ؛ ويشير بذلك إلى أهمية الموسيقى التي تعمل على تنمية النفس خصوصا عند الأطفال ؛ على ضوء ما تمت مناقشته بصدد المفارقة التي يطرحها النسق الأفلاطوني ؛ يمكن لنا إذن أن نتساءل على ضوء كل هذه الملاحظات ما يلي: فإذا كان أفلاطون تبنى نظرة مثالية للسياسة في كتاب الجمهورية و نظرة واقعية في القوانين؛ فما هي النظرة التي يفترضها مقابل ذلك في محاورة السياسي؟ بمعنى آخر كيف نظر أفلاطون إلى السياسي وإلى دوره داخل الدولة في تمييزه عن السفسطائي والحاكم المستبد والطاغية؟
بادئ دي بدء وكما تعوضنا في تحليلاتنا السابقة ؛ وجب التعريف بمحاورة بوليتيكوس أو السياسي وهي محاورة تتمركز حول وجود شخصيتين هما الغريب الإيلي ممثلا في شخص ثيودوروس وسقراط الفتى ؛ حيث يبدآن هذه المحاورة بالحديث عن مميزات وخصائص السياسي و تمييزه عن السفسطائي ؛ إذ يسائله "ما إذا كان رجل الدولة يصنف ضمن من يمتلكون علما"، و على ضوء هذا القول يحاول أفلاطون أن يرسم صورة لرجل الدولة أو السياسي الذي يدير شؤون الدولة ؛ والذي يتصف بالعلم الملكي؛ وقد ميزه أفلاطون عن السفسطائي والحاكم المستبد ؛ بحيث أن الحاكم الذي يحكم بالعدل والفضيلة يعتبر أساس الدولة السعيدة ، ولكن عندما يخرج عن القانون ويرتكب أي جريمة في حق أي شخص، وجب نعته بالطاغية الذي يحكم بدون قانون وفق الأهواء ؛ وعلى هذا الأساس إن وضع القوانين المكتوبة هو محاولة لرسم صورة للحكومة.
إن الحاكم المعتدل الذي يدير شؤون الدولة يجب أن يكون شجاعا ؛ وأن صورة رجل الدولة يجب أن تتحدد في هذين البعدين وهما الشجاعة والاعتدال باجتماع هذه الطبائع في الملك ورجل الدولة تتحقق غاية المدينة وهي السعادة ؛ ولعل هذا ما ذهب إليه في كتاب الجمهورية.
من هذا المنطلق إن رجل الدولة هو الملك ؛ السيد ورب الأسرة، و يطلق على علم رجل الدولة اسم العلم الملكي أو العلم السياسي أو الاقتصادي ؛ حيث يتم فعله بقوة عقله وذكائه وليس بيديه ، فهذا رجل الدولة له صلة بالمعرفة أكثر من الفنون اليدوية وبالحياة العملية بشكل عام.
من الواضح أن أفلاطون حاول في محاورة السياسي أن يعرض الفرق بين رجل الدولة و المستبد والسفسطائي ؛ ومهام كل واحد منهم ، إن فن الحكم ورجل الدولة يختص بالعلم الملكي وبالملك ، وهنا يكمن دور العلوم المتشابهة التي تقسم إلى قسمين ( عملية، عقلية) ، هناك التي تأمر والثانية التي تحكم إن رجل الدولة يجب أن يستند إلى القانون في حكمه ، لأن غياب القانون سيؤدي إلى الاستبداد والسقوط في حكومة ملوكية.
ينظر أفلاطون إلى أن الحاكم الذي يحكم المدينة ، يجب أن يستند إلى الحكمة والعدل وحيث أن الحكام يعملون على تحسين المدينة ؛ وصونها بقدر ما يمتلكون من القوة وبما أن الدولة التي يحكمونها تتصف بهذه القيم الأخلاقية ؛ فإنها توصف على أنها حكومة صالحة ، فغياب القانون في شخص الحاكم يجعل حكمه خشنا.
وعلى هذا الأساس نجد أفلاطون يتحدث على لسان الغريب الإيلي عن الحاكم الذي يحكم وفق القانون ، والعرف والذي يتبع خطوات الإنسان العاقل أو يقتفي العلم الحقيقي ؛ ولكن عندما ينتهك الدستور المكتوب والقانون يسمى حاكما مستبدا.
من خلال ذلك يمكن القول أن هذه النظرة الأفلاطونية للقوانين قد تميزت عن كل ما رسمه أفلاطون في محاوراته السابقة والتي كانت محط جدل خصوصا من قبل تلميذه المعلم الأول أرسطو؛ ومن هنا يمكن أن نطرح ثمة أسئلة بخصوص هذا الشأن : ما يلي : ما أوجه الاتفاق والاختلاف بين النسق الأفلاطوني والأرسطي؟
مناقشة أفكار أفلاطون وتأثيره على باقي الفلسفات الأخرى:
يذهب المعلم الأول أرسطو في كتابه" السياسة" إلى التأكيد على أهمية الفرد داخل المجتمع حيث يتحدث عن الدولة بوصفها تقوم على ضرورة الاجتماع من خلال عنصر أساسي وهو الأسرة كعامل لضرورة الاجتماع ؛ ويتم النظر في ذلك من خلال اعتبار الدولة مكونة من اجتماع القرى ؛ حيث أن قبل نشوء المجتمع كانت هناك القرية وكانت غاية كل الاجتماعات ، وذلك باعتبار الإنسان كائن مدني بالطبع ، فحاجة الإنسان إلى الدولة والاجتماع هو نابع من فكرة الضرورة التي تفرض على الإنسان أن يندمج مع الآخرين
وقد أغفل أفلاطون في كتابه القوانين تعيين الفرق بين الحاكمين والمحكومين ؛ ولهذا يقر أرسطو على أن دستور المدينة يجب أن يجمع بين عناصر الدساتير الأخرى ، حيث تأتلف العناصر الثلاثة الأولغارشية والملوكية والديمقراطية ؛ فالأولى ممثلة في الملوك والأخرى بالشيوخ والثالثة بالحكام الذين يقفون بجانب صفوف الشعب ؛ وبذلك يؤكد أرسطو على أنه كان لجزيرة كريت دستور خاص بها يختلف عن باقي الدول ؛ و هذا يعود إلى ما يقره القانون.
فإذا كان أفلاطون قد أكد على فكرة الحاكم الفيلسوف وأهميته داخل المدينة ، وكذلك على أهمية السياسي الذي يمتلك العلم الملكي في تدبير شؤون الدولة ؛ وكذا الحاكم المشرع للقوانين وفق مبدأ الاعتدال ؛ فإن أرسطو يذهب أبعد من ذلك لكي يؤكد على أهمية المواطن وبهذا يكون المواطن حسب أرسطو هو مواطن الديمقراطية ؛ بمعنى أن هدف الدساتير الصالحة هو الاعتراف بالمواطن وإعطائه حق ومشروعية في القرار ؛ وأن المواطن هو الفرد الذي يكون له في الجمعية العمومية وفي المحكمة حق وصوت في المداولة مهما كان شكل الدولة ؛ فالمواطن إذن هو فرد مخول له سلطة ما.
هناك اختلاف بين فضيلة المواطن والفرد ؛ ففضيلة المواطن تتعلق بالدولة وبالتالي فإنها تختلف عن فضيلة الفرد ، وذلك من خلال وجود تماثل بين الفضيلة السياسية والفضيلة الخاصة ، ففي الجمهورية الفاضلة ، يجب أن تكون الفضيلة المدنية تعم الجميع ما دام أنها الركن الضروري لكمال المدينة ؛ ورغم أن فضيلة المواطن وفضيلة الفرد متماثلتين ؛ فهذا الاجتماع لا يمكن أن يتحقق إلا في شخص الحاكم الذي يمثل رجل الدولة ، كما يعتقد بذلك أفلاطون.
وحيث أن فضيلة المواطنين ليست مماثلة لفضيلة الحاكم الذي يحكمهم ، إذ تتعلق عادة الفضيلة العليا للمواطن بالآمرة والطاعة وهما الملكتان الضروريتان للمواطن ؛ وعلى هذا الأساس ينظر أرسطو إلى الشجاعة والحكمة على أنهما مختلفتان عند المرأة والرجل ؛ هنا يكاد أرسطو يختلف عن أفلاطون ؛ إذ نجد أرسطو يقصر عمل المرأة على الإدارة البيتية والرجل بالإدارة المدنية ؛ أما أفلاطون اعتبر المرأة لها دور في مشاركة الرجل في الأعمال السياسية داخل المدينة حسب مقدرتها ومؤهلاتها الطبيعية.
لاشك أن موقف أفلاطون من الدساتير التي كانت سائدة في أثينا ، موقفا رافضا خصوصا النظام الديمقراطي الذي تسبب في إعدام أستاذه سقراط ؛ وعليه نفس التوجه كان لتلميذه أرسطو حيث كان يرفض الحكومات التي تدعي أنها تملك السلطة الكاملة في الحكم ؛ من مثل النظام الأولغارشي حكم الأقلية ، والحكم الملكي أي حكم الفرد فهذه الحكومات في نظر أرسطو هي فاسدة.
وعلى هذا الأساس يسعى أرسطو من خلال كتابه "السياسة " إلى بناء وتأسيس الموروث السياسي ؛ خاصة منه الأفلاطونية لأن باختصار الأفلاطونية لا تعبر عن معقولية الاجتماع السياسي بقدر ما هي مثالية في تشريعاتها ؛ في حين الأرسطية تسعى إلى المعقولية قصد التعبير عن تشكلات الإنسان واجتماعه داخل المدينة ؛ ولكن رغم مآخذة أرسطو على أفلاطون هذه المثالية ، مع ذلك يجب أن نبدي نوعا من التحفظ من هذا الموقف خصوصا أن أفلاطون قد قدم لنا صورة واقعية في كتابه "القوانين"؛ والتي غيرت منظورنا إلى أفلاطون بشكل شامل ؛ كما يقر أرسطو أيضا بنفس التقسيم الذي وضعه أفلاطون في كتابه "القوانين" وهو تصنيف الأحكام السياسية إلى ثلاثة: الهيئة القضائية، الاستشارية ، الحاكمة ، و يأتي ذلك بطبيعة الحال من خلال الانتخاب والتصويت.
إن التأكيد على أهمية القانون في بناء الدولة وتشييد النظم والتشريعات ؛ بناء على وجود دستور صالح ، يكاد اليوم يحظى بأهمية وقيمة أساسية ؛ لكن لا يجب أن نقف عند هذه الحدود في مناقشتنا للطرح الأفلاطوني للدولة والقانون ؛ بل يجب كذلك أن ننظر في التأثير الذي تركه أفلاطون فيما بعد في باقي الفلسفات الأخرى ونشير بذلك إلى تطور ونشأة الدولة الحديثة ، حيث عندما ننظر في الفكر السياسي عند توماس هوبس تظهر لنا مفارقة جدلية وهي فكرة الحرب والعداوة التي تحدث عنها أفلاطون في محاورته سالفة الذكر، لعل هذا التأثير واضحا لكن ما يمكن أن ننبه إليه هو أن هوبس افترض وجود الطبيعة الشريرة التي يكون فيها الإنسان عدو الآخر على حد قوله الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ، لعل هذا القول يقودنا إلى القول الذي تطرقنا له في بداية تحليلنا لهذه المحاورة.
إن هوبس قد أسس نظرية الدولة على أساس التعاقد وهو الأمر الذي يتباين ويطرح مفارقة أخرى من خلال ما أشرنا إليه في مناقشتنا لهذا الإشكال ؛ حيث كانت الدولة تقوم على الاجتماع الذي ينبني بالضرورة على الطبيعة ؛ ومن تم فإن الهدف الأساسي بالنسبة لهوبس هو بناء الدولة من أجل الحفاظ على الحقوق الطبيعية ، وضمان الأمن والاستقرار والقضاء على الحرب وضمان السلم؛ لعلها نفس الفكرة التي ذهب إليها أفلاطون من خلال جعل هدف الدولة متمركزا في القضاء على الحرب و تحقيق السلم ؛ من خلال فرض قواعد وقوانين من أجل تفادي الصراع و حتى لا تعم الفوضى.
إن هذا الإشكال الذي يتمثل في تأسيس الدولة على القانون ؛ لم تشغل فكر هوبس فقط بل إن هذا الهاجس كان محط اهتمام كل فلاسفة التعاقد الاجتماعي ؛ خصوصا مؤسس الثورة الفرنسية جان جاك روسو الذي ذهب إلى نفس التوجه وهو تأسيس الدولة التي تقوم على القانون ، والتخلص من الصراعات والنزاعات التي دخل فيها الإنسان نتيجة التنافس حول الملكية ( ملكية الأرض) وهذا ما حاول أن يبرزه لنا في كتابه " خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر "؛ إذ يقول روسو " إن أول من سور أرضا وعنّ له أن يقول " هذا لي" ، فوجد أناسا لهم من السذاجة ما يكفي لكي يصدقوه ، كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني ، ألاكم من الجرائم ، وكم من الحروب والقتل وكم من الشقاوات والفظائع " ؛ من الواضح إذن أن روسو قد وضع الأساس الأول لإقامة المجتمع من خلال التنازع حول الملكية ، حيث صار الإنسان يحوز عن ملكية الأرض كملكية خاصة به؛ وهذا ما أحدث نوع من الحروب والصراعات تسبب في الجرائم والقتل .
وهنا يجب أن ننبه إلى أن روسو قد سلك مسلكا آخر في حديثه عن نظرية الدولة خصوصا في حالة الطبيعة ؛ حيث افترض خيرية الإنسان مقابل شره الذي اكتسبه بفعل عيشه مع الآخرين في ظل المجتمع ( مرحلة الثقافة).
وعلى الأساس يكون الإنسان خير بطبعه حسب روسو ؛ إذ يتسم بمجموعة من الصفات كالطيبة والتحنن والرحمة ؛ وكما تمت الإشارة سابقا فإن الباعث الأساسي لقيام الدولة هو الخروج من الصراع واللا مساواة التي خلقت بين الناس بفعل الملكية ؛ فإن روسو دعا إلى إقامة العقد الاجتماعي ، وذلك من خلال التنازل عن مجمل الحقوق الطبيعية الأولى للإنسان من أجل ضمان الحقوق المدنية ؛ وصونها في إطار القانون والتمتع بمزايا الحق والقضاء على التفاوت والصراع الذي من شأنه يولد الحرب والعنف ؛ وكذلك سيادة سلطة ديمقراطية تعطي أولوية للشعب في السيادة والحكم ، من أجل تحقيق المصلحة المشتركة وهي الإرادة العامة.
مناقشة أفكار أفلاطون حول الدولة في ضوء دراسات أخرى:
كما يمكن أن نتحدث أيضا عن الدولة من خلال النظر إلى واقع الدولة العربية اليوم من خلال نموذج الفيلسوف المغربي "عبد الله العروي" في كتابه " مفهوم الدولة"، إذ يؤكد على أن التفكير في المجتمع والدولة هو تفكير في الحرية ، ففي الدولة العربية غياب العلم الذي يبحث في اجتماعيات الدولة أي علم السياسات ؛ إن التشديد على ضرورة تقوية الدولة هو دليل على أنها ضعيفة باستمرار ؛ رغم كون الجهاز في الدولة قويا ومتطورا فإن ذلك يجعل الدولة ضعيفة ومتخلفة ؛ إن الدولة المعاصرة جهازها قوي ومتطور و لكن هذا لا يعني أنها موجودة بالفعل كدولة ، إذ يفترض "العروي" بذلك مفهوم الأدلوجة الدولوية .
كما يمكن أن ننظر في هذا الشأن إلى موقف محمد عابد الجابري في سلسلة مواقف" الواقع العربي بعيون ابن خلدون"، حيث يتحدث عن الواقع العربي من خلال الحديث عن الدولة عند ابن خلدون ؛ إن هذا المفهوم كما يجري استعماله اليوم في الخطاب العربي الحديث أو المعاصر قد نشأ وظل مرتبطا بالتجربة العربية الإسلامية.
وهذا ما جعل أحد الفرنسيين من مثال برتراند بادي ، يطرح من منظور سياسي وسوسيولوجي إشكالية عدم تطور الدولة في الحضارة العربية الإسلامية ؛ إلى النمط الذي تطورت وتحولت إليه الدولة في أروبا خصوصا الدولة الحديثة وارتباطها بنظام بيروقراطي على حد تعبير ماكس فيبر.
والأساس الذي يقوم عليه الاختلاف بين مسار تطور الدولة هنا في واقعنا العربي ومسار تطورها هناك ، هو حضور الكنيسة في أروبا كسلطة دينية تنافس السلطة المدنية ( دولة الأمير والإمبراطور) ؛ الشيء الذي أدى إلى صراع مرير انتهى بتغلب السلطة المدنية على السلطة الدينية و بالتالي قيام الدولة العلمانية ؛ أي الدولة التي تحتكر السلطة السياسية تاركة شأن الدين كعقيدة وممارسة للكنيسة.
إن هذا الإشكال ارتباط الدولة بالدين أصبح يفرض نفسه خصوصا في ظل الحديث عن الدولة العلمانية أي فصل الديني عن السياسي ؛ وحيث أننا نلحظ ذلك في كثير من المجتمعات نجد هناك استغلال السياسي للديني للوصول إلى السلطة، و هذا يبدي نوعا من التحفظ من الدين كركيزة أساسية يجب التعامل معه من منطلق التحفظ ، و كون أن استغلال الدين لمطامع سياسية ينضوي على نوع من الاستبداد التي تبدي في شخص الحاكم الذي يحتكر هذه السلطة الدينية لتحقيق أهداف سياسية.
الخاتمة:
نخلص إذن من خلال تحليلنا و مناقشتنا للطرح الأفلاطوني إلى القول أن أفلاطون شكل بحق ثمرة الفكر السياسي ، وهذا ما حاول أن يبرزه لنا في ضوء محاورة "القوانين" إذ كما أشرنا حاول أفلاطون أن يبرز لنا القيمة الأساسية التي حظي بها القانون داخل الدولة ؛ ودوره في القضاء على الحرب و الدعوة إلى السلم ؛ ولعل هذا التصور له مآخذه فيما أتى من فلسفات أخرى التي حاولت أن تظهر أهمية القانون و كذلك الحديث عن دور الدولة والذي تجلى بالأساس في فرض النظام أو لنقل غايتها هي القضاء على الحرب وبناء السلام ؛ وهذا ما يبرز لنا بوضوح في الفكر السياسي الحديث أو ما يصطلح عليه بمفهوم الدولة الحديثة.
إن أفلاطون بلا شك حاول في كتابه القوانين أن يضفي صبغة جديدة على متنه الفلسفي ، بعد الصورة المثالية أو لنقل الطوباوية التي آخذنها عليه منذ البداية ، لكن عندما تفحصنا متنه في القوانين ظهرت لنا عكس هذه الصورة تماما ليس فقط بخصوص القوانين ، و حتى من خلال النظر في مواضيع أخرى كالتربية و موقفه من الشعر والتعليم و الخمر ؛ نرى أفلاطون واقعيا وأقرب بكثير إلى الواقع ، فعندما قمنا بتحليلنا و مناقشتنا لهذه المحاورة " القوانين " برزت لنا صورة القاضي والمحامي الذي يدافع عن قضية جنائية أمام المحكمة ؛ خصوصا عندما تحدث عن أنواع القوانين وكذلك أنواع الجرائم المرتكبة وكذا العقوبات المنصوص عليها طبقا للقانون ؛ كما حاولنا أن نقارن هاته الأفكار على ضوء محاورات أخرى كمحاورة الجمهورية ، ومحاورة السياسي.
و يبدو لي وإن كنت أبدي تحفظا من هذا الموقف أن أفلاطون كان هدفه من خلال تأسيس الدولة وجعل القانون مركزها ؛ هو أن يقدم نظرية سياسية أو ما يصطلح عليه بالعلوم السياسية و أن يضفي عليها طابعا فلسفيا ؛ كأننا نقرأ صورة القانوني في شخص الفيلسوف أفلاطون ، بعد المزيج الذي جمع بين الفيلسوف والشاعر؛ حتى لا نطيل الكثير من المجاز في هذا الشأن ؛ فإننا حاولنا في هذا العمل أن نبرز كذلك دور الدولة وتطورها خصوصا في العالم العربي ، وهذا ما يدفعنا أن نتساءل لنترك هذا الإشكال منفتحا ما يلي : إذا كان أفلاطون قد بنى دولته على أساس القانون و أولى أهمية للقوانين و للعمل التشريعي ؛ فهل يمكن القول بأن هذا التصور يعكس واقع الدولة اليوم ؟ بمعنى آخر هل فعلا استطعنا أن نؤسس لمفهوم الدولة أم فقط كل ما نحمله من أفكار هو مجرد تخيلات واهمة ؟
،
____________
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة في هذه القراءة:
.أفلاطون، المحاورات الكاملة، محاورة النواميس، المجلد السادس، ترجمة شوقي داود تمراز، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت ،1994 .
. أفلاطون، المحاورات الكاملة، محاورة بوليتيكوس، المجلد الثاني ، ترجمة شوقي داود تمراز، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1994 .
.أفلاطون ، المحاورات الكاملة، محاورة الجمهورية ، المجلد الثاني ، ترجمة شوقي داود تمراز، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت ، 1994.
.أرسطو طاليس، السياسة ، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل ، بيروت- لبنان ، 2009 .
.روسو جان جاك، خطا ب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية ؛ إعداد المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى ؛ بيروت- لبنان 2009.
.عابد الجابري محمد ؛ سلسلة مواقف " الواقع العربي بعيون ابن خلدون" ، الشركة العربية الإفريقية للتوزيع والنشر والصحافة ؛ الطبعة الأولى، يناير 2009 .
.العروي عبد الله ؛ مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي – بيروت- لبنان- الطبعة التاسعة، 2011.
.ديورانت ويل ؛ قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، حياة وآراء أعاظم رجال الفلسفة في العالم ؛ ترجمة أحمد أمين ؛ دار النشر والتوزيع ، يوليو- القاهرة ؛ الطبعة ؛ 2018
ليست هناك تعليقات